في ظلال الآيات حلقة(41)

373

في ظلال الآيات حلقة(41)

الشيخ عبد الرزاق النداوي

 

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} (آل عمران 28).

مقدمة

موضوع هذه الآية ينصب على مبحثين:

الأول: الولاية

الثاني: التقية

بالإضافة الى بعض الموضوعات الجانبية، وسنعرض لها على التوالي:

المبحث الأول: الولاية

الولاية أولا وبالذات لا تكون الا لله تعالى، وتتفرع عليها الولاية للرسول ’ ثم للأئمة المعصومين ×، كما يلوح ذلك من قوله تعال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (المائدة:55-56). بناء على أن المراد بالمؤمنين هنا أمير المؤمنين ×، كما هو مسطور في بحوث أسباب النزول([1]).

ثم يتفرع على ذلك الولاية للمؤمنين أو قل بين المؤمنين عموماً، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71).

ومن هنا يمكن تقسيم الولاية الى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من العالي الى الداني، وهي (الحاكمية والسلطنة)، وهي ولاية الله تبارك وتعالى على العباد حيث لا حاكم ولا سيد ولا سلطان تجب طاعته إلا هو جلّ وعلا، ويتفرع عليها ولاية النبي والإمام، حيث أن الله تعالى أمر بطاعتهم، فطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته.

القسم الثاني: من الداني الى العالي، وهي ولاية الخلق كل الخلق لله تعالى، حيث تجب عليهم طاعته والانقياد له من دون أي اعتراض، فعندما نقول: إن علياً × وليُّ الله تعالى، يعني أنه مطيع ومنقاد لله تعالى في كل صغيرة وكبيرة، فهو رباني في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته.

القسم الثالث: الولاية من المساوي الى المساوي، وهي الولاية بين المؤمنين، وهذه تعني المحبة، والمناصرة، والمناصحة، والتعاون وترك الشحناء، والنزاع، والأحقاد،   فالواجب على المؤمنين جميعاً إشاعة هذه المفاهيم الطيبة فيما بينهم لتتراص صفوفهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وقد ورد الحث على ذلك في الكتاب والسنة، ومن ذاك:

* {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة:2).

* {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأَنْفال:46).

* {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (سورة الحجرات:9- 12)

وغير ذلك الكثير من الوصايا في الكتاب والسنة التي يلزم المؤمنين ملاحظتها وتطبيقها.

هذا، ويمكن تقسيم الولاية باعتبار آخر الى واجبة ومحرمة:

أما الواجبة فهي ولاية الله ورسوله والمؤمنين، وقد تقدم تفصيل الكلام فيها، وأما المحرمة فهي ولاية (الكافرين، والمنافقين، وأهل الكتاب المعاندين) وقد شددت الكثير من الآيات الشريفة على منع هذا النوع من الولاية، كما شددت النكير على مرتكبيها، ومن تلك النصوص سنذكر ثلاثة نصوص لكل فئة ـ من الفئات الثلاثة ـ نص:     

* ولاية الكافرين: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:257).

* ولاية المنافقين: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء:88-89).

* ولاية أهل الكتاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (المائدة:57-58).

وينبغي الالتفات هنا أن ولاية الله مقدمة على كل ولاية حتى النسبية حتى أقرب الأقربين، إذا تعارضت مع ولاية الله سقطت، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:23-24).

نعود الى الآية محل البحث، حيث يقول تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}

فهاهنا نهي بـ (لا) الناهية للمؤمنين عن تولي الكافرين؛ لأن ذلك يدخل ذلك في الولاية المحرمة.  

قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ}

أي هو ليس من حزب الله وغير داخل في ولاية الله وخارج دائرة الإيمان ، (لذلك أيضا لم يقل ومن يفعل ذلك من المؤمنين كأن فيه صونا للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل هذا الفعل)([2]) الشنيع.

المبحث الثاني: حول التقية

قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}

استثناء ورخصة من الله تعالى للمؤمنين في إظهار الموافقة للكافرين، من دون عقد القلب عليها، وهو الإتقاء في موضع الخوف واحتمال الضرر… بل قد يكون الأمر على نحو العزيمة لا الرخصة حفاظا على النفس، بل قد يكون المخالف آثم عامل بغير ما يرضي الله تعالى، وقد جاء ذلك في عدة نصوص متظافرة، منها عن أبي عبد الله × (لا دين لمن لا تقية له)([3]).

وفي خبر عمار الذي حكاه القرآن حيث يقول تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل:106)، تصريح بصحة ما فعل عمار، قال الفخر الرازي: (وكان فيهم [يعني المسلمين] من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه، مع أنه كان بقلبه مصراً على الإيمان، منهم: عمار، وأبواه ياسر وسمية، وصهيب ، وبلال، وخباب، وسالم، عذبوا، فأما سمية فقيل: ربطت بين بعيرين ووخزت في قبلها بحربة، وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت ، وقتل ياسر، وهما أول قتيلين قتلاً في الإسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً، فقيل: يا رسول الله إن عماراً كفر، فقال: كلا إن عماراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله ’ وهو يبكي، فجعل رسول الله ’ يمسح عينيه ويقول: ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت)([4]) .

كلام في معنى التقية وأقسامها 

التقية: هي التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق([5]).

ويمكن تقسيمها الى الأحكام الخمسة، (الواجب والحرام والمستحب والمكروه والمباح)، وما يهمنا منها الإلزامية أي الواجب والحرام، كما سيتبين. 

التقية الواجبة

قال الأنصاري: (ثم الواجب منها يبيح كل محظور من فعل الواجب وترك المحرم.

والأصل في ذلك: أدلة نفي الضرر، وحديث رفع عن أمتي تسعة أشياء، ومنها: (ما اضطروا إليه)، مضافا إلى عمومات التقية ، مثل قوله في الخبر: (إن التقية واسعة، ليس شيء من التقية إلا وصاحبها مأجور)، وغير ذلك من الأخبار المتفرقة في خصوص الموارد)([6])

ومنه يفهم أن العمل بالتقية يصح معه العمل العبادي، ولا يحتاج الى الإعادة حتى لو تخلله ما يبطله، ففي الصلاة مثلاً يجب السجود على الأرض، فإن تركه تقية تصح صلاته كما يلوح من هذا النص: (ولا تصل خلف أحد إلا خلف رجلين: أحدهما من تثق به وبدينه وورعه، وآخر من تتقي سيفه وسوطه وشره وبوائقه وشنيعته، فصل خلفه على سبيل التقية والمداراة، وأذّن لنفسك وأقم واقرأ فيها فإنه غير مؤتمن به)([7]).

ولا يخفى أن مخالفة التقية في مثل هكذا موارد مبطل للعمل وإن كان موافقا للحق كما أفتى بذلك الفقهاء.. لأنه يعرض نفسه للخطر، فهو ليس في وارد الطاعة بل في وارد المعصية… لأن السجود على التربة في ظرف التقية منهي عنه فإن فعله أفسد صلاته.  

التقية المحرمة

وأما المحرمة منها فأمور، وقد ذكر الشيخ الأنصاري أمرين حيث قال: (والحرام: التقية حيث يؤمن الضرر عاجلا وآجلا، أو في قتل مسلم)([8]) ، وقد يكون + ذكرهما على نحو المثال، وإلا فإن الأمر أوسع من ذلك.

فنقول بعد التوكل على الله تعالى: موارد التقية المحرمة أمور:

(1) ما كان في الدماء وهو أوضحها؛ لورود النص بذلك، فعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر × قال: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فليس تقية([9]).

أقول: وهذا يشمل ثلاثة موارد:

المورد الأول: القتل المباشر، فلو أمره الظالم بقتل مؤمن يجب عليه الرفض، حتى لو كان في ذلك تحمل القتل وذهاب نفسه.

المورد الثاني: القضاء للظالم بإصدار أحكام إعدام أو قتل المؤمنين.

المورد الثالث: الفتيا بجواز قتل مؤمن أو جماعة من المؤمنين.

(2) ما ذكره الأنصاري في النص المتقدم، حيث قال: (التقية حيث يؤمن الضرر عاجلا وآجلا)، أي اذا كان الطرف الآخر مأمون الجانب، ولا يوجد أدنى ضرر من ابراز المبدأ الحق أمامه فلا تشرع التقية.

(3) الفتيا بخلاف ما يريده الله تعالى، وهذا له موارد كثيرة نذكر منها على سبيل المثال:

المورد الأول: الفتيا بتحريم محلل أو تحليل محرم، فإنه يحرم ذلك على الفقيه إذا كان له مقلدين وأتباع مع كونه غير قادر على تنبيههم على أن الفتوى صدرة في ظرف تقية وقي الناس يعملون بها.

وقد تقول: إن هناك مجموعة من الآراء صدرت من أهل البيت ^ تقية.    

قلت: نعم حصل ذلك ولكن أهل البيت كانوا يوصلون رأيهم الحق لخواص شيعتهم لينبؤوا بعد ذلك عموم الشيعة بالرأي الحق، ونظير ذلك ما حصل مع علي بن يقطين في مسألة الأمر له بالوضوء على مذهب القوم، لفترة ليحصنه من بطش هارون العباسي، ثم إنه × أمره بصيغة الوضوء الذي عليه العصابة([10]).

وعلى هذا الضوء أسسوا في الفقه مجموعة قواعد لحل التعارض بين الروايات، واحدة من تلك القواعد أنه يترك ما وافق فقهاء السلطة، وهو مضمون ما ورد عنهم ^:  (دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم)([11]).  

المورد الثاني: الفتيا بمساندة الظالم، وأذكر في هذا المجال من حصل لسيدنا الشهيد الصدر الثاني +، حيث جاءه البعثيون يطلبون منه مساندة قيادتهم الظالمة الغاشمة المتمثلة بالطاغية صدام، وذلك بعد اعلان أمريكا نيتها اسقاط النظام في عملية ثعلب الصحراء التي وقعت في ولاية الرئيس (كلنتون)، فقال لهم + وبكل شجاعة: انتم تعادونني وتحاربونني، وإذا احتجتم اليَّ تأتون وتطلبون مساندتي… أنا ضد الأمريكان ولكن ليس على هواكم ووفق ما تشتهون، ولن أُدخل المؤمنين في محرقة أنتم تصنعونها، وأما رأيي فسأعلنه في صلاة الجمعة…

ثم إنه رضوان الله تعالى عليه بين في الجمعة اللاحقة أهداف أمريكا وخبثها وخبث مخططاتها([12]).

وكذلك أفتى السيد الحائري بالوقوف على التل من حرب الأمريكان ضد صدام لحين انجلاء الغبرة وأن لا يرمي المؤمنين أنفسهم في محرقة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.     

وهناك تطبيقات كثيرة يمكن ملاحظتها في هذا الباب باعتبار أن الفتوى تدخل في جميع مناحي الحياة، فالأمر هنا دقيق وخطير، حتى ورد في وصايا الصادق ×: (اهرب من الفتيا هربك من الأسد)([13]).

(4) ومن مصاديق حرمة التقية ما إذا ترتب على العمل بها مفسدة عظيمة تحل بالدين والمجتمع المسلم، ومن ذلك ما ذكره السيد الخوئي + حيث قال: (إذا كانت المفسدة المترتبة على فعل التقية أشد واعظم من المفسدة المترتبة على تركها، أو كانت المصلحة في ترك التقية أعظم من المصلحة المترتبة على فعلها، وكما إذا علم بأنه إن عمل بالتقية ترتب عليه اضمحلال الحق واندراس الدين الحنيف وظهور الباطل وترويج الجبت والطاغوت، وإذا ترك التقية ترتب عليه قتله فقط أو قتله مع جماعة آخرين، ولا اشكال حينئذ في أن الواجب ترك العمل بالتقية وتوطين النفس للقتل؛ لأن المفسدة الناشئة عن التقية أعظم وأشد من مفسدة قتله.

نعم ربما تكون المفسدة في قتله أعظم واكثر كما إذا كان العامل بالتقية ممن يترتب على حياته ترويج الحق بعد الاندراس وانجاء المؤمنين من المحن بعد الابتلاء ونحو ذلك ولكنه أمر آخر، والتقية بما هي تقية متصفة بالحرمة في تلك الصورة كما عرفت، ولعله من هنا أقدم الحسين سلام الله وصلواته عليه وأصحابه رضوان الله عليهم لقتال يزيد بن معاوية وعرضوا أنفسهم للشهادة وتركوا التقية عن يزيد، وكذا بعض أصحاب امير المؤمنين × بل بعض علمائنا الابرار قدس الله أرواحهم وجزاهم عن الاسلام خيرا كالشهيدين وغيرهما) انتهى([14]).

وبالجملة فإن العمل بالتقية وتركها من الأمور الدقيقة والتي تحتاج الى شيء من الوعي والبصيرة، قال الأنصاري: (وفي رواية عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر ×: رجلان من أهل الكوفة أخذا، فقيل لهما: ابرءا من أمير المؤمنين، فتبرأ واحد منهما وأبى الآخر، فخلي سبيل الذي تبرأ وقتل الآخر، فقال ×: أما الذي تبرأ فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يتبرأ فرجل تعجل إلى الجنة.

وعن كتاب الكشي بسنده إلى يوسف بن عمران الميثمي قال: سمعت ميثم النهرواني يقول: قال علي بن أبي طالب ×: يا ميثم كيف أنت إذا دعاك دعي بني أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أنا والله لا أبرأ منك، قال: إذا والله يقتلك ويصلبك، قال: قلت: أصبر فإن ذلك في الله قليل، قال ×: يا ميثم فإذن تكون معي في روضتي)([15]).

قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ}

الحذر: هو الاحتراز من أمر مخيف، وإنما قال {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}، ولم يقل عقابه فيه دلالة على وخامة الجرم المذكور، وهو الولاية للكافرين، (أي ليس بين هذا المجرم وبينه تعالى شئ مخوف آخر حتى يتقى عنه بشيء، أو يتحصن منه بحصن، وإنما هو الله الذي لا عاصم منه، ولا أن بينه وبين الله سبحانه أمر مرجو في دفع الشر عنه من ولي ولا شفيع، ففي الكلام أشد التهديد، ويزيد في اشتداده تكراره مرتين في مقام واحد، ويؤكده تذييله أولا بقوله وإلى الله المصير، وثانيا بقوله و الله رؤوف بالعباد)([16])

أقول: يريد بقوله (تكراره مرتين في مقام واحد)، أن جملة {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} تكررت مرتين في السياق، حيث يقول تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:28-30)، فتأمل.

 

 

[1])) قال الزمخشري: نزلت في علي كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنه كان مرجا في خنصره ، فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته. فإن قلت: كيف صح أن يكون لعلي رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة؟ قلت: جئ به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحدا ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والاحسان وتفقد الفقراء ، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخروه إلى الفرغ منها. انظر: تفسير الكشاف، ج1ص624.

[2])) الميزان ج3ص152.

[3])) الوسائل، ج10ص131.

[4])) تفسير الرازي، ج20ص121.

[5])) التقية للشيخ الأنصاري ص37.

[6])) التقية للشيخ الأنصاري ص41.

[7])) التقية للأنصاري، ص52.

[8])) التقية للأنصاري، ص40.

[9])) وسائل الشيعة، ج16ص234.

[10])) قال في الوسائل نقلا عن إرشاد المفيد: ان علي بن يقطين كتب إلى أبي الحسن موسى × يسأله عن الوضوء؟ فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام: فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، والذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثا، وتستنشق ثلاثا، وتغسل وجهك ثلاثا، وتخلل شعر لحيتك وتغسل يديك إلى المرفقين ثلاثا، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر اذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا، ولا تخالف ذلك إلى غيره فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما رسم له أبو الحسن × فيه مما جميع العصابة على خلافه، ثم قال: مولاي أعلم بما قال، وأنا أمتثل أمره، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالا لأمر أبي الحسن ×، وسعى بعلي بن يقطين إلى الرشيد، وقيل: إنه رافضي فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر، فلما نظر إلى وضوئه ناداه كذب يا علي بن يقطين! من زعم أنك من الرافضة وصلحت حاله عنده، وورد عليه كتاب أبي الحسن × ابتدأ من الآن يا علي بن يقطين وتوضأ كما أمرك الله تعالى: اغسل وجهك مرة فريضة، وأخرى إسباغا، واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنا نخاف منه عليك والسلام. الوسائل، ج1ص444/ وتجده في الإرشاد، ج2ص227.

[11])) الكافي، ج1ص8.

[12])) انظر: أضواء على منبر الصدر للنداوي، ج3ص138.

[13])) البحار، ج1ص226.

[14])) انظر: الخوئي، ابو القاسم، الطهارة، ط الثالثة 1410هـ، صدر ـ قم، الناشر: دار الهادي ـ قم، ج4ص257.

 

[15])) التقية للأنصاري، ص68.

[16])) الميزان، ج3ص153.